فصل: سئل عن معاملة الذين غالب أموالهم حرام

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/

 وسئل ـ قدس الله روحه ـ عن مدينة لا يذبح فيها شاة إلا ويأخذ المكاس سقطها ورأسها وكوارعها مكسا، ثم يضع ذلك، ويبيعه في الأسواق، وفي المدينة من لا يمتنع من شراء ذلك وأكله من أهل المدينة، وغيرهم، وليس يباع في المدينة رؤوس وكوارع وأسقاط إلا على هذا الحكم، ولا يمكن غير ذلك، فهل يحرم شراء ذلك وأكله والحالة هذه أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

هذه حكمها حكم ما يأخذه الملوك من الكلف التي يضربونها على الناس؛ فإن هذه في الحقيقة تؤخذ من أموال أصحاب الغنم الذين يبيعونها للقصابين وغيرهم؛ فإن المشتري يحسب أنه يؤخذ من السواقط، فيسقط من الثمن بحسب ذلك‏.‏ وهكذا جميع ما يؤخذ من الكلف، فإنها وإن كانت تؤخذ من المشتري، فهي في الحقيقة من مال البائع، وهذه الكلف دخلها التأويل والشبهة‏.‏ ومنها ما هو ظلم محض، ولكن تعذر معرفة أصحابه ورده إليهم، فوجب صرفه في مصالح المسلمين، وولاية بيعها وصرفها لهم‏.‏

فالمشتري لذلك منهم إذا أعطاهم الثمن لم يكن بمنزلة اشتراء المغصوب/ المحض الذي لا تأويل فيه ولا شبهة، وليس لصاحبه ولاية بيعه،حتى يقال‏:‏ إنه فعل محرمًا يفسق بالإصرار عليه‏.‏وفي المنع من شرائها إضرار بالناس،وإفساد للأموال من غير منفعة تعود على المظلوم‏.‏

والمظلوم له أن يطالب ظالمه بالثمن الذي قبضه إن شاء، وبنظير ماله، والتورع عن هذا من التورع عن الشبهات، ولا نحكم بأنها حرام محض، ومن اشتراها وأكلها لم يجب الإنكار عليه، ولا يقال‏:‏ إنه فعل محرمًا لا تأويل فيه‏.‏

فإن طائفة من الفقهاء أفتوا طائفة من الملوك بجواز وضع أصل هذه الوظائف‏.‏ كما فعل ذلك أبو المعالى الجويني في كتابه ‏[‏غياث الأمم‏]‏ ، وكما ذكر ذلك بعض الحنفية‏.‏ وما قبض بتأويل فإنه يسوغ للمسلم أن يشتريه ممن قبضه، وإن كان المشتري يعتقد أن ذلك العقد محرم، كالذمي إذا باع خمرًا، وأخذ ثمنه، جاز للمسلم أن يعامله في ذلك الثمن، وإن كان المسلم لا يجوز له بيع الخمر ، كما قال عمر بن الخطاب‏:‏ولوُّهم بيعها، وخذوا أثمانها‏.‏ وهذا كان سببه أن بعض عماله أخذ خمرًا في الجزية، وباع الخمر لأهل الذمة، فبلغ ذلك عمر، فأنكر ذلك‏.‏ وقال‏:‏ ولوهم بيعها، وخذوا أثمانها‏.‏ وهذا ثابت عن عمر، وهو مذهب الأئمة‏.‏

وهكذا من عامل معاملة يعتقد جوازها في مذهبه، وقبض المال،/ جاز لغيره أن يشتري ذلك المال منه، وإن كان لا يري جواز تلك المعاملة‏.‏

فإذا قدر أن الوظائف قد فعلها من يعتقد جوازها؛ لإفتاء بعض الناس له بذلك، أو اعتقد أن اعتقاد أخذ هذا المال وصرفه في الجهاد وغيره من المصالح جائز، جاز لغيره أن يشتري ذلك المال منه، وإن كان لا يعتقد جواز أصل القبض‏.‏

وعلى هذا فمن اعتقد أن لولاة الأمر فيما فعلوه تأويلا سائغا، جاز أن يشتري ما قبضوه، وإن كان هو لا يجوز ما فعلوه، مثل أن يقبض ولي الأمر من الزكاة قيمتها فيشتري منها، ومثل أن يصادر بعض العمال مصادرة يعتقد جوازها، أو مثل أن يرى الجهاد وجب على الناس بأموالهم، وأن ما أخذوه من الوظائف هو من المال الذي يجوز أخذه، وصرفه في الجهاد، وغير ذلك من التأويلات التي قد تكون خطأ، ولكنها مما قد ساغ فيه الاجتهاد‏.‏ فإذا كان قبض ولي الأمر المال على هذا الوجه، جاز شراؤه منه، وجاز شراؤه من نائبه الذي أمره أن يقبضه، وإن كان المشتري لا يسوغ قبضه، والمشتري لم يظلم صاحبه، فإنه اشتراه بماله ممن قبضه قبضًا يعتقد جوازه‏.‏

وإن كان على هذا الوجه فشراؤه حلال في أصح القولين، وليس من الشبهات؛ فإنه إذا جاز أن يشتري من الكفار ما قبضوا بعقود يعتقدون جوازها ـ وإن كانت محرمة في دين المسلمين ـ فلأن / يجوز أن يشتري من المسلم ما قبضه بعقد يعتقد جوازه ـ وإن كنا نراه محرمًا ـ بطريق الأولى، والأحرى، فإن الكافر تأويله المخالف لدين الإسلام باطل قطعًا، بخلاف تأويل المسلم‏.‏

ولهذا إذا أسلموا وتحاكموا إلينا،وقد قبضوا أموالًا بعقود يعتقدون جوازها؛كالربا، وثمن الخمر،والخنزير،لم تحرم عليهم تلك الأموال،كما لا تحرم معاملتهم فيها قبل الإسلام؛لقوله تعالى‏:‏‏{‏اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 278‏]‏ ‏.‏ولم يحرم ما قبضوه‏.‏

وهكذا من كان قد عامل معاملات ربوية يعتقد جوازها، ثم تبين له أنها لا تجوز، وكانت من المعاملات التي تنازع فيها المسلمون، فإنه لا يحرم عليه ما قبضه بتلك المعاملة على الصحيح‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ أن ما قبضه الملوك ظلمًا محضًا، إذا اختلط بمال بيت المال، وتعذر رده إلى صاحبه، فإنه يصرف في مصالح المسلمين؛ فإن المجهول كالمعدوم، فما عرف أنه قبض ظلمًا، ولم يعرف صاحبه، صرف في المصالح، وما قبض من بيت المال المختلط حلاله بحرامه لم يحكم بأنه حرام؛ فإن الاختلاط إذا لم يتميز المال يجري مجري الإتلاف، وصاحبه يستحق عوضه من بيت المال‏.‏ فمن قبض ثمن مبيع من مال بيت المال المختلط جاز له ذلك في أصح الأقوال‏.‏ والله أعلم‏.‏

/

 وسئل شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ عن هذه الأغنام التي تباع فيؤخذ مكسها من القصابين، فيحتجر عليهم في الذبيحة في موضع واحد، ويؤخذ منهم أجرة الذبح، ثم بعد ذلك يؤخذ سواقطها مكسا ثانيا مضمنا، ثم تطبخ وتباع، فهل هي حرام على من اشتراها للأكل أم لا‏؟‏ وهل هذا التكسب فيها حرام أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، هذه المسألة فيها نزاع‏:‏

فمن الناس من يقول‏:‏ هذا مال أخذ من صاحبه بغير حق، وبيع بلا ولاية، ولا وكالة، فلم يصح بيعه، بل هو باق على ملك صاحبه، وقد طبخ هذا وبيع بغير إذنه، فلا يجوز شراؤه‏.‏

ومنهم من يقول‏:‏ هذا مال ولاة الأمور؛ إما متأولين، أو متعمدين للظلم، وإذا لم يردوه إلى أصحابه كانت المصلحة بيعه ؛ لأن حبسه حتى يفسد ضرر لا يأمر به الشارع ، ولو بيع المال بغير إذن صاحبه كان بيعه موقوفا على إجازة المالك عند أكثر العلماء‏.‏ وما باعه / ولاة الأمر فلهم من الولاية على الأموال المجهولة التي قبضها نوابهم ما ليس لغيرهم، وقد تعذر بعد القبض معرفة مالك كل رأس، والمصلحة بيعها، وقسمة الأثمان بين المستحقين، فإن باعوها ولم يقسموا أثمانها لم يكن على المشتري إثم، وإنما الإثم على من يمنع أصحابها أثمانها‏.‏ كما لو باع ولي اليتيم، وناظر الوقف، وولي بيت المال، ولم يصرف الثمن إلى المستحقين، فالإثم عليه، لا على الذي اشتري منه‏.‏

ثم الذين اشتروها وإن كان الشراء فاسدًا أخذت منهم أثمانها، فهم يستحقون أثمانها التي أدوها، وقد نص غير واحد من العلماء كأحمد وغيره على أن من اشتري شيئا، فظهر له أنه مغصوب، ولم يعرف مالكه، فإن له أن يبيعه ويأخذ ثمنه، ولكن يتصدق بالربح‏.‏

والطباخون الذين اشتروا الرؤوس، وقد تعذر ردها، لهم أن يبيعوها، ويأخذوا نظير أثمانها، إن لم يكن البيع الأول صحيحًا، وحينئذ فيكون الشراء صحيحًا، وقد أجازوا البيع فيجوز على قول أكثر العلماء؛ كمالك، وأبي حنيفة، وأحمد في أظهر الروايتين عنه‏.‏

فهذه عدة مآخذ يحتج بها من يجوز الشراء‏.‏ فمن اشتراها واتبع هؤلاء لم ينكر عليه، ومن قامت عنده شبهة، أو اعتقد التحريم فامتنع من شرائها لم ينكر عليه‏.‏ ولا يمكن القطع بتحريم مثل هذا؛ / فإن كثيرًا لابد للمسلمين منه، هو من هذا الباب، يحتجر عليه ولاة الأمور، يبيعونه للناس‏.‏ ولا يمكن الناس أخذه إلا من أولئك‏.‏ ومن هذا ما يكون من المباحات؛ كالملح، والأطرون، وغير ذلك‏.‏ ومنه ما يكون من المملوكات‏.‏ كالصوف، والجلود، والشعر، كما يبيعونه من أموال من يصادرونه، والناس يحتاجون إليه‏.‏ ومن ذلك ما يقبض بحق‏.‏ ومنه ما يقبض بتأويل‏.‏ ومنه ما يقبض ظلما محضًا، لكن جميع ذلك لا يرد إلى أصحابه، بل قد يتعذر رده إلى أصحابه؛ إما لجهلهم، وإما لعجزه عن رده إليهم‏.‏ والمجهول والمعجوز عنه سقط التكليف به، وإما لإجبار المسلمين على الظلم‏.‏ وعلى كل التقديرين فبيعه خير لصاحبه وللمسلمين من أن يترك فيفسد، ولا ينتفع به أحد‏.‏

وحينئذ، فإذا كان الأصلح على هذا التقدير بيعه، كان للمشتري أن يشتريه، ويكون حلالًا له، والمشتري لم يظلم أحدا؛ فإنه أدي الثمن‏.‏ والمظلوم في نفس الأمر يستحق الثمن إذا كانت المصلحة له بيعه، كما يباع مال الغائب، حتى لو أن رجلا مات بمكان ليس فيه ولي أمر، فقال جمهور العلماء لرفقته ولاية قبض ذلك، وبيعه‏.‏ وكذلك من عنده أموال مغصوبة، وعوار، وودائع لا يعرف أصحابها، فمذهب الجمهور ـ مالك، وأبي حنيفة وأحمد ـ أنها يجوز بيعها إذا كانت المصلحة تقتضي ذلك، ويجوز شراؤها‏.‏

/وأصل هذا أن الله ـ جل وعز ـ بعث الرسل لتحصيل المصالح، وتكميلها بحسب الإمكان، وتقديم خير الأمرين بتفويت أدناهما‏.‏ والله ـ سبحانه ـ حرم الظلم على عباده، وأوجب العدل، فإذا قدر ظلم وفساد ولم يمكن دفعه كان الواجب تخفيفه، وتحري العدل والمصلحة بحسب الإمكان‏.‏ والله حرم الظلم فيما يشترك فيه الناس من المباحات، وفي الأموال المملوكة لما في ذلك من الضرر على المستحقين‏.‏

فلو قيل‏:‏ إن هذه الأموال لا تشتري، وأنه لا يحل لأحد أن ينتفع بملح ولا جلود ولا رؤوس ولا شعور ولا أصواف وغير ذلك مما يباع على هذا الوجه؛ كان المنع من ذلك من أعظم ضرر على المسلمين، وفساد في الدين والدنيا، من أن يقال‏:‏ بل حق المظلوم عند الظالم الذي قبض ثمنها، والمشتري اشتراها بحق، فتحل له، فإنه إذا قيل هذا كان فيه جبر حق المظلوم بإحالته على الظالم، وجبر حق عموم الخلق بتمكينهم من الانتفاع بها بالأثمان، لا سيما وقد عرف أن أصحاب تلك الرؤوس ونحوها في نفس الأمر لا يكرهون بيعها، إذ لا مصلحة لهم في إفسادها، فإذا بيعت فقد فعل ما يختارون فعله، وما يرضونه، لكنهم لايرضون أن تؤخذ أثمانها منهم، بل يرضون أن تدفع إليهم الأثمان‏.‏ وحينئذ فهم راضون بقبض المشتري لها، وانتفاعهم بها، ولكن لا يرضون عمن باعها إلا بأن يعطيهم الثمن، فيكون هو وحده / ظلمهم، لم يظلمهم المشتري، فتكون له حلالًا‏.‏ والكلام في هذه المسألة مبسوط في غير هذا الموضع‏.‏

ونكتة المنع أن المحرم لها يقول‏:‏ بيعت بغير إذن، ولا وكالة، ولا ولاية‏.‏ وهذا ممنوع، بل يقال‏:‏هم يرضون بيعها، وقد أذنوا في ذلك ؛ولكن لم يرضوا أن تؤخذ الأثمان، كما لو قدر أن شخصًا أذن لشخص فباع، وأخذ الثمن لنفسه، فالمالك راض بالبيع،دون قبضه الثمن له‏.‏ ولو قدر أن المالك لم يأذن في البيع فمصلحته في الشرع تقتضي أن يباع،فهذا خير له من أن يفسد،ولا يمكن أن يباع إلا على هذا الوجه، وأن يباع ويقبض الثمن ـ كائنا من كان ـ خير من أن يفسد؛ فإنه حينئذ يمكن مطالبة البائع بالثمن مع انتفاع الناس بها، وهو خير من مطالبة الغاصب بالقيمة مع فسادها‏.‏والكلام في مثل هذا يطول‏.‏والله أعلم بالصواب‏.‏

 وسئل ـ رحمه الله ـ عن الذين غالب أموالهم حرام، مثل المكاسين، وأكلة الربا، وأشباههم ‏.‏ ومثل أصحاب الحرف المحرمة كمصوري الصور، والمنجمين، ومثل عوان الولاة، فهل يحل أخذ طعامهم بالمعاملة أم لا‏؟‏

/فأجاب‏:‏

الحمد لله، إذا كان في أموالهم حلال وحرام، ففي معاملتهم شبهة، لا يحكم بالتحريم إلا إذا عرف أنه يعطيه ما يحرم إعطاؤه‏.‏ ولا يحكم بالتحليل إلا إذا عرف أنه أعطاه من الحلال، فإن كان الحلال هو الأغلب لم يحكم بتحريم المعاملة، وإن كان الحرام هو الأغلب‏.‏ قيل بحل المعاملة‏.‏ وقيل‏:‏ بل هي محرمة‏.‏ فأما المعامل بالربا فالغالب على ماله الحلال؛ إلا أن يعرف الكره من وجه آخر‏.‏ وذلك أنه إذا باع ألفا بألف ومائتين فالزيادة هي المحرمة فقط، وإذا كان في ماله حلال وحرام واختلط لم يحرم الحلال، بل له أن يأخذ قدر الحلال، كما لو كان المال لشريكين فاختلط مال أحدهما بمال الآخر، فإنه يقسم بين الشريكين‏.‏

وكذلك من اختلط بماله الحلال والحرام، أخرج قدر الحرام، والباقي حلال له‏.‏ والله أعلم‏.‏

 وسئل عما يأكله رؤساء القري، وشيوخ الحارات، هل هو حلال أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

إذا كان الرئيس يظلم الناس، فما يأخذه ظلمًا من الناس فهو حرام‏.‏ وما كان ملكًا له أو مكتسبًا بطريق شرعي، فهو مباح‏.‏ وشيخ الحارة إذا أخذ أجرته على الحراسة بالمعروف، ولم يتعد على الناس، فأجرته حلال‏.‏

/

 وسئل عن رجل فامي يأخذ منه رؤساء القري شيئا يضيفون به المنقطعين، وغيرهم ويجبون من المساكين والأرامل فيعطوه، هل يكون حلالا أم حراما‏؟‏

فأجاب‏:‏

إذا اشتروا منهم شيئا، وأعطوهم ثمنه من مال يعلمون أنه مغصوب ـ أخذ من أصحابه ظلمًا ـ لم يكن لهم أن ينتفعوا به، لكن هذا المال إذا اشتري لهم به ما يطلبونه منهم لم يكن عليهم شيء، إذا كانوا المكرهين على ذلك‏.‏ فينبغي لمن يتقي أن يظلم وأن يظلم أن يشتري للظلمة بأموالهم ما يطلبونه منه، لا ليظلم غيره، ولا يكون هو مظلومًا، وهو مكره على هذا العمل‏.‏

ومع هذا، فالمال الذي جمعوه من الناس، وقد تعذر رده على صاحبه، إذا أعطوه الفامي عوضا عما أخذوه منه بغير اختياره، فهو أحق به، ممن يعطاه بغير معاوضة، والظالم في الحقيقة هو الذي أخذ الأموال بغير حق، لا من أخذ عوض ماله من مال لا يعلم له مستحقًا معينًا‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

/

 وسئل عن معاملة التتار، هل هي مباحة لمن يعاملونه‏؟‏

فأجاب‏:‏

أما معاملة التتار، فيجوز فيها ما يجوز في أمثالهم، ويحرم فيها ما يحرم من معاملة أمثالهم، فيجوز أن يبتاع الرجل من مواشيهم، وخيلهم، ونحو ذلك، كما يبتاع من مواشي التركمان، والأعراب، والأكراد، وخيلهم، ويجوز أن يبيعهم من الطعام والثياب ونحو ذلك، ما يبيعه لأمثالهم‏.‏

فأما إن باعهم، وباع غيرهم، ما يعينهم به على المحرمات؛ كالخيل، والسلاح، لمن يقاتل به قتالا محرمًا، فهذا لا يجوز‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 2‏]‏ ‏.‏ وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه لعن في الخمر عشرة‏:‏ ‏(‏لعن الخمر، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه، وبائعها، ومبتاعها، وساقيها، وشاربها، وآكل ثمنها‏)‏ ‏.‏ فقد لعن العاصر، وهو إنما يعصر عنبًا يصير عصيرًا، والعصير حلال، يمكن أن يتخذ خلا، ودبسًا، وغير ذلك‏.‏

/وإن كـان الذي معهـم أو مع غيرهم أمـوال يعـرف أنهم غصبوهـا من معصـوم، فتلك لا يجـوز اشتراؤها لمن يتملكهـا، لكن إذا اشتريت على طريق الاستنقاذ لتصرف في مصارفها الشرعية، فتعاد إلى أصحابها إن أمكن، وإلا صرفت في مصالح المسلمين، جاز هذا‏.‏

وإذا علم أن في أموالهم شيئا محرما لا تعلم عينه، فهذا لا يحرم معاملتهم، كما إذا علم أن في السوق ما هو مغصوب، أو مسروق، ولم يعلم عينه، والحرام إذا اختلط بالحلال فهذا نوعان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن يكون محرمًا لعينه؛ كالميتة، والأخت من الرضاعة‏.‏ فهذا إذا اشتبه بما لا يحصر لم يحرم، مثل أن يعلم أن في البلدة الفلانية أختًا له من الرضاعة، ولا يعلم عينها، أو فيها من يبيع ميتة لا يعلم عينها، فهذا لا يحرم عليه النساء، ولا اللحم‏.‏ وأما إذا اشتبهت أخته بأجنبية، أو المذكي بالميت، حرما جميعًا‏.‏

والثاني‏:‏ ما حرم لكونه أخذ غصبًا، والمقبوض بعقود محرمة كالربا، والميسر، فهذا إذا اشتبه واختلط بغيره لم يحرم الجميع، بل يميز قدر هذا من قدر هذا، فيصرف هذا إلى مستحقه، وهذا إلى مستحقه؛ مثل اللص الذي أخذ أموال الناس فخلطها، أو أخذ حنطة الناس، أو دقيقهم، فخلطه، فإنه يقسم بينهم على قدر الحقوق‏.‏

/وإذا علم أن في البلد شيئا من هذا لا يعلم عينه، لم يحرم على الناس الشراء من ذلك البلد، لكن إذا كان أكثر مال الرجل حرامًا هل تحرم معاملته‏؟‏ أو تكره‏؟‏ على وجهين، وإن كان الغالب على ماله الحلال لم تحرم معاملته، لكن قد قيل‏:‏ إنه من المشتبه الذي يستحب تركه‏.‏ والله أعلم‏.‏

وقـال‏:‏

 فصل

قد ذكرت في غير موضع‏:‏ أن المحرمات في الشريعة ترجع إلى الظلم، إما في حق الله تعالى، وإما في حق العبد، وإما في حقوق العباد‏.‏ وكل ما كان ظلمًا في حق العباد، فهو ظلم العبد لنفسه، ولا ينعكس، فجميع الذنوب تدخل في ظلم العبد نفسه‏.‏

وأول من اعترف بهذا أبو البشر، لما تلقي من ربه الكلمات، فقال‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 23‏]‏ ، فكان في هذه الكلمات اعترافه بذنبه، وطلبه ربه على وجه الافتقار والمغفرة والرحمة‏.‏ فالمغفرة إزالة السيئات، والرحمة إنزال / الخيرات‏.‏ فهذا ظلم لنفسه، ليس فيه ظلم لغيره‏.‏ وقال موسي عليه السلام لما ذكر الذي هو من عدوه‏:‏ ‏{‏فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 15، 16‏]‏ ، فاعترف بظلمه نفسه فيما كان من جناية على غيره لم يؤمر بها‏.‏ وقال يونس ـ عليه السلام ـ‏:‏ ‏{‏أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 78‏]‏ ، وفي الصحيح الدعاء الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يدعو به في صلاته‏:‏ ‏(‏اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم‏)‏، فهذا الدعاء مطابق لدعاء آدم في الاعتراف بظلم النفس، ومسألة المغفرة والرحمة‏.‏ وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استوي على الدابة‏:‏ فحمد وسبح وكبر، قال‏:‏ ‏(‏لا إله إلا أنت، سبحانك ظلمت نفسي، فاغفر لي‏)‏ ثم يضحك‏.‏ وهو محفوظ من حديث على بن أبي طالب‏.‏

وإذا كان كذلك، فالظلم نوعان‏:‏ تفريط في الحق، وتعدي للحد، كما قد قررت ذلك في غير موضع؛ فإن ترك الواجب ظلم، كما أن فعل المحرم ظلم‏.‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَطْل الغني ظلم‏)‏ متفق عليه‏.‏ فأخبر أن المطل ـ وهو تأخير الوفاء ـ ظلم، فكيف بتركه‏؟‏‏!‏

/وقد قررت في غير هذا الموضع أن أداء الواجب أعظم من ترك المحرم، وأن الطاعات الوجودية أعظم من الطاعات العدمية، فيكون جنس الظلم بترك الحقوق الواجبة أعظم من جنس الظلم بتعدي الحدود‏.‏

وقررت ـ أيضا ـ أن الورع المشروع هو أداء الواجب، وترك المحرم، ليس هو ترك المحرم فقط، وكذلك التقوي اسم لأداء الواجبات، وترك المحرمات‏.‏ كما بين الله حدها في قوله‏:‏ ‏{‏لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 177‏]‏ ‏.‏

ومن هنا يغلط كثير من الناس فينظرون ما في الفعل، أو المال من كراهة توجب تركه، ولا ينظرون ما فيه من جهة أمر يوجب فعله‏.‏ مثال ذلك ما سئل عنه أحمد‏:‏ عن رجل ترك مالًا فيه شبهة، وعليه دين، فسأله الوارث هل يتورع عن ذلك المال المشتبه‏؟‏ فقال له أحمد‏:‏ أتترك ذمة أبيك مرتهنة‏؟‏‏!‏ ذكرها أبو طالب وابن حامد‏.‏ وهذا عين الفقه؛ فإن قضاء الدين واجب، والغريم حقه متعلق بالتركة، فإن لم يوف الوارث الدين، وإلا فله استيفاؤه من التركة، فلا يجوز إضاعة التركة المشتبهة إلى تعلق بها حق الغريم، ولا يجوز ـ أيضا ـ إضرار الميت بترك ذمته مرتهنة‏.‏ ففي الإعراض عن التركة إضرار الميت، وإضرار المستحق، وهذان ظلمان محققان بترك واجبين‏.‏ وأخذ المال المشتبه / يجوز أن يكون فيه ضرر المظلوم‏.‏ فقال أحمد للوارث‏:‏ أبرئ ذمة أبيك‏.‏ فهذا المال المشتبه خير من تركها مرتهنة بالإعراض‏.‏ وهذا الفعل واجب على الوارث وجوب عين، إن لم يقم غيره فيه مقامه، أو وجوب كفاية، أو مستحب استح

بابا مؤكدًا، أكثر من الاستحباب في ترك الشبهة؛ لما في ذلك من المصلحة الراجحة‏.‏

وهكذا جميع الخلق عليهم واجبات؛ من نفقات أنفسهم، وأقاربهم، وقضاء ديونهم، وغير ذلك‏.‏ فإذا تركوها كانوا ظالمين ظلمًا محققًا‏.‏ وإذا فعلوها بشبهة لم يتحقق ظلمهم‏.‏ فكيف يتورع المسلم عن ظلم محتمل بارتكاب ظلم محقق‏؟‏‏!‏ ولهذا قال سعيد بن المسيب‏:‏ لا خير فيمن لا يحب المال‏:‏ يعبد به ربه، ويؤدي به أمانته، ويصون به نفسه، ويستغني به عن الخلق‏.‏ وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ثلاثة حق على الله عونهم‏:‏ الناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء، والغارم يريد الوفاء‏)‏ فذكر في هذا الحديث ما يحتاج إليه المؤمن‏:‏ عفة فرجه، وتخليص رقبته، وبراءة ذمته‏.‏ فأخبر أن هذه الواجبات من عبادة الله، وقضاء الديون، وصيانة النفس، والاستغناء عن الناس، لا تتمم إلا بالمال‏.‏ ومالا يتم الواجب إلا به فهو واجب‏.‏ ومن لا يحب أداء مثل هذا الواجب العظيم الذي لا يقوم الدين إلا به فلا خير فيه‏.‏ فهذه جملة، ولها تفاصيل كثيرة‏.‏ والله أعلم‏.‏

/ وقال ـ رحمه الله ـ بعد كلام سبق‏:‏

وأصل المسألة‏:‏ أن النهي يدل على أن المنهي عنه فساده راجح على صلاحه، ولا يشرع التزام الفساد ممن يشرع له دفعه‏.‏ وأصل هذا أن كل ما نهي الله عنه وحرمه في بعض الأحوال، وأباحه في حال أخري، فإن الحرام لا يكون صحيحًا نافذًا كالحلال، يترتب عليه الحكم، كما يترتب على الحلال، ويحصل به المقصود كما يحصل به‏.‏ وهذا معني قولهم‏:‏ النهي يقتضي الفساد، وهذا مذهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وأئمة المسلمين، وجمهورهم‏.‏

وكثير من المتكلمين من المعتزلة، والأشعرية يخالف في هذا، لما ظن أن بعض ما نهي عنه ليس بفاسد، كالطلاق المحرم، والصلاة في الدار المغصوبة، ونحو ذلك‏.‏ قال‏:‏ لو كان النهي موجبًا للفساد لزم انتقاض هذه العلة، فدل على أن الفساد حصل بسبب آخر غير مطلق النهي‏.‏ وهؤلاء لم يكونوا من أئمة الفقه العارفين بتفصيل أدلة الشرع‏.‏ فقيل لهم‏:‏ بأي شي يعرف أن العبادة فاسدة، والعقد فاسد‏؟‏ قالوا‏:‏ بأن يقول الشارع‏:‏ هذا صحيح، وهذا فاسد‏.‏ وهؤلاء لم يعرفوا أدلة / الشرع الواقعة، بل قدروا أشياء قد لا تقع، وأشياء ظنوا أنها من جنس كلام الشارع، وهذا ليس من هذا الباب‏.‏ فإن الشارع لم يدل الناس قط بهذه الألفاظ التي ذكروها، ولا يوجد في كلامه شروط البيع والنكاح؛ كذا، وكذا‏.‏ ولا هذه العبادة، والعقد صحيح، أو ليس بصحيح، ونحو ذلك مما جعلوه دليلا على الصحة والفساد، بل هذه كلها عبارات أحدثها من أحدثها من أهل الرأي والكلام‏.‏

وإنما الشارع دل الناس بالأمر والنهي، والتحليل والتحريم، وبقوله في عقود‏:‏ ‏[‏هذا لا يصلح‏]‏ علم أنه فساد، كما قال في بيع مدين بمد تمرًا‏:‏ ‏[‏ لا يصلح ‏]‏ والصحابة والتابعون وسائر أئمة المسلمين كانوا يحتجون على فساد العقود بمجرد النهي، كما احتجوا على فساد نكاح ذوات المحارم بالنهي المذكور في القرآن، وكذلك فساد عقد الجمع بين الأختين‏.‏

ومنهم من توهم أن التحريم فيها تعارض فيه نصان، فتوقف‏.‏ وقيل‏:‏ إن بعضهم أباح الجمع‏.‏

وكذلك نكاح المطلقة ثلاثا استدلوا على فساده بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 230‏]‏ ‏.‏

وكذلك الصحابة استدلوا على فساد نكاح الشغار بالنهي عنه، فهو من الفساد ليس من الصلاح‏.‏ فإن الله لا يحب الفساد، ويحب الصلاح‏.‏/ ولا ينهي عما يحبه‏.‏ وإنما ينهي عما لا يحبه‏.‏ فعلموا أن المنهي عنه فاسد، ليس بصالح‏.‏ وإن كانت فيه مصلحة فمصلحته مرجوحة بمفسدته، وقد علموا أن مقصود الشرع رفع الفساد، ومنعه، لا إيقاعه، والإلزام به‏.‏ فلو ألزموا موجب العقود المحرمة، لكانوا مفسدين غير مصلحين، واللّه لا يصلح عمل المفسدين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 11‏]‏ أي‏:‏ لا تعملوا بمعصية الله تعالى، فكل من عمل بمعصية اللّه فهو مفسد، والمحرمات معصية للّه، فالشارع ينهي عنه ليمنع الفساد، ويدفعه، ولا يوجد قط في شيء من صور النهي صورة ثبتت فيها الصحة بنص، ولا إجماع‏.‏ فالطلاق المحرم، والصلاة في الدار المغصوبة، فيهما نزاع، وليس على الصحة نص يجب اتباعه، فلم يبق مع المحتج بهما حجة‏.‏

لكن من البيوع ما نهي عنه لما فيها من ظلم أحدهما للآخر، كبيع المصراة، والمعيب وتلقي السلع، والنجش، ونحو ذلك، ولكن هذه البيوع لم يجعلها الشارع لازمة؛ كالبيوع الحلال، بل جعلها غير لازمة، والخيرة فيها إلى المظلوم، إن شاء أبطلها وإن شاء أجازها، فإن الحق في ذلك له، والشارع لم ينه عنها لحق مختص باللّه، كما نهي عن الفواحش، بل هذه إذا علم المظلوم بالحال في ابتداء العقد، مثل أن يعلم بالعيب، والتدليس والتصرية، ويعلم السعر إذا كان قادمًا بالسلعة، ويرضى بأن / يغبنه المتلقي، جاز ذلك، فكذلك إذا علم بعد العقد إن رضي جاز، وإن لم يرض كان له الفسخ‏.‏

وهذا يدل على أن العقد يقع غير لازم، بل موقوفا على الإجازة، إن شاء أجازه صاحب الحق، وإن شاء رده‏.‏ وهذا متفق عليه في مثل بيع المعيب، مما فيه الرضا بشرط السلامة من العيب، فإذا فقد الشرط بقي موقوفًا على الإجازة، فهو لازم إن كان على صفة وغير لازم إن كان على صفة‏.‏

وأما إذا كان غير لازم مطلقا، بل هو موقوف على رضا المجيز، فهذا فيه نزاع‏.‏ وأكثر العلماء يقولون بوقف العقود، وهو مذهب مالك، وأبي حنيفة،وغيرهما، وعليه أكثر نصوص أحمد، وهو اختيار القدماء من أصحابه‏.‏ كالخرقي،وغيره، كما هو مبسوط في موضعه‏.‏

إذًا المقصود هنا أن هذا النوع يحسب طائفة من الناس أنه من جملة ما نهى عنه‏.‏ ثم تقول طائفة أخرى‏:‏ وليس بفاسد‏.‏ فالنهي يجب أن يقتضي الفساد‏.‏ ويقول طائفة أخرى‏:‏ بل هذا فساد‏.‏ فمنهم من أفسد بيع النجش إذا نجش البائع أو واطأ‏.‏ ومنهم من أفسد نكاح الخاطب إذا خطب على خطبة أخيه، وبيعه على بيعه‏.‏ ومنهم من أفسد بيع المعيب المدلس‏.‏ فلما عورض بالمصراة توقف‏.‏ ومنهم من صحح / نكاح الخاطب على خطبة أخيه مطلقًا، وبيع النجش بلا خيار‏.‏

والتحقيق‏:‏ أن هذا النوع لم يكن النهي فيه لحق اللّه؛ كنكاح المحرمات، والمطلقة ثلاثًا، وبيع الربا، بل لحق الإنسان، بحيث لو علم المشتري أن صاحب السلعة ينجش‏.‏ ورضي بذلك جاز‏.‏ وكذلك إذا علم أن غيره ينجش‏.‏ وكذلك المخطوبة متى أذن الخاطب الأول فيها جاز‏.‏ ولما كان النهي هنا لحق الآدمي، لم يجعله الشارع صحيحًا لازما كالحلال ، بل أثبت حق المظلوم وسلطه على الخيار‏.‏ فإن شاء أمضي، وإن شاء فسخ‏.‏

فالمشتري مع النجش إن شاء رد المبيع فحصل بهذا مقصوده‏.‏ وإن شاء رضي به إذا علم بالنجش‏.‏ فأما كونه فاسدًا مردودًا، وإن رضي به، فهذا لا وجه له‏.‏ وكذلك في الرد بالعيب، والمدلس، والمصراة‏.‏ وغير ذلك‏.‏

وكذلك المخطوبة إن شاء هذا الخاطب أن يفسخ نكاح هذا المعتدي عليه ويتزوجها برضاه، فله ذلك‏.‏ وإن شاء أن يمضي نكاحها فله ذلك‏.‏وهو إذا اختار فسخ نكاحها عاد الأمر إلى ما كان‏.‏ إن شاءت نكحته،وإن شاءت لم تنكحه؛ إذ مقصوده حصل بفسخ نكاح الخاطب‏.‏ وإذا قيل‏:‏هو غَيَّر قلب المرأة على‏.‏ قيل‏:‏ إن شئت عاقبناه على هذا، بأن نمنعه من نكاح تلك المرأة‏.‏ فيكون هذا قصاصًا لظلمه إياك‏.‏وإن شئت عفوت / عنه فأنفذنا نكاحه‏.‏

وكذلك الصلاة في الدار المغصوبة، والذبح بآلة مغصوبة‏.‏ وطبخ الطعام بحطب مغصوب‏.‏ وتسخين الماء بوقود مغصوب، كل هذا إنما حرم لما فيه من ظلم الإنسان‏.‏ وذلك يزول بإعطاء المظلوم حقه‏.‏ فإذا أعطاه ما أخذه من منفعة ماله، أو من أعيان ماله، فأعطاه كرى الدار وثمن الحطب، وتاب هو إلى اللّه تعالى من فعل ما نهاه عنه، فقد برئ من حق الله وحق العبد، وصارت صلاته كالصلاة في مكان مباح‏.‏ والطعام كالطعام بوقود مباح، والذبح بسكين مباحة‏.‏ وإن لم يفعل ذلك كان لصاحب السكين أجرة ذبحه‏.‏ ولا تحرم الشاة كلها لأجل هذه الشبهة‏.‏

وهذا إذا كان أكل الطعام، ولم يوفه ثمنه، كان بمنزلة من أخذ طعامًا لغيره فيه شركة، ليس فعله حرامًا ولا هو حلالًا محضًا، فإن نضج الطعام لصاحب الوقود فيه شركة‏.‏

وكذلك الصلاة يبقى عليه إثم الظلم ينقص من صلاته بقدره، ولا تبرأ ذمته، كبراءة من صلى صلاة تامة، ولا يعاقب كعقوبة من لم يصل، بل يعاقب على قدر ذنبه، وكذلك آكل الطعام يعاقب على قدر ذنبه‏.‏ واللّه تعالى يقول‏:‏ ‏{‏فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ‏}‏ ‏[‏الزلزلة‏:‏7،8‏]‏‏.‏

/وإنما قيل في الصلاة في الثوب النجس وبالمكان‏:‏ يعيد ، بخلاف هذا؛ لأنه هناك لا سبيل له إلى براءة ذمته إلا بالإعادة، وهنا يمكنه ذاك، بأن يرد أرض المظلوم، لكن الصلاة في الثوب الحرير هي من ذلك القسم، الحق فيها للّه، لكن نهي عن ذلك في الصلاة، وفي غير الصلاة، لم ينه عنه في الصلاة فقط‏.‏ وقد تنازع الفقهاء في مثل هذا‏.‏

فمنهم من يقول‏:‏ النهي هنا لمعني في غير المنهي عنه، وكذلك يقولون في الصلاة في الدار المغصوبة، والثوب المغصوب، والطلاق في الحيض، والبيع وقت النداء، ونحو ذلك‏.‏ وهذا الذي قالوه لا حقيقة له، فإنه إن عني بذلك أن نفس البيع اشتمل على تعطيل الصلاة، ونفس الصلاة اشتملت على الظلم، والفخر، والخيلاء، ونحو ذلك مما نهى عنه، كما اشتملت الصلاة في الثوب النجس على ملابسة الرجس الخبيث، فهذا غير صحيح‏.‏ وإن أرادوا بذلك أن ذلك المعنى لا يختص بالصلاة، بل هو مشترك بين الصلاة وغيرها، فهذا صحيح؛ فإن البيع وقت النداء لم ينه عنه إلا لكونه شاغلًا عن الصلاة، وهذا موجود في غير البيع، لا يختص بالبيع‏.‏

لكن هذا الفرق لا يجيء في طلاق الحائض؛ فإنه ليس هناك معنى مشترك، وهم يقولون‏:‏ إنما نهى عنه لإطالة العدة، وذلك خارج عن الطلاق‏.‏ فيقال‏:‏ وغير ذلك من المحرمات كذلك، إنما نهى عنها لإفضائها / إلى فساد خارج عنها‏.‏ فالجمع بين الأختين نهى عنه لإفضائه إلى قطيعة الرحم، والقطيعة أمر خارج عن النكاح‏.‏ والخمر والميسر حرما، وجعلا رجسًا من عمل الشيطان؛ لأن ذلك يفضى إلى الصد عن الصلاة، وإيقاع العداوة والبغضاء، وهو أمر خارج عن الخمر والميسر‏.‏ والربا حرام؛ لأن ذلك يفضى إلى أكل المال بالباطل، وذلك أمر خارج عن عقد الميسر والربا‏.‏ فكل ما نهى اللّه عنه لابد أن يشتمل على معني فيه يوجب النهي، ولا يجوز أن ينهى عن شيء لا لمعنى فيه أصلا، بل لمعنى أجنبي عنه؛ فإن هذا من جنس عقوبة الإنسان بذنب غيره، والشرع منزه عنه، لكن في الأشياء ما ينهي عنه لسد الذريعة، فهو مجرد عن الذريعة لم يكن فيه مفسدة؛ كالنهي عن الصلاة في أوقات النهي قبل طلوع الشمس وغروبها ونحو ذلك، وذلك لأن هذا الفعل اشتمل على مفسدة؛ لإفضائه إلى التشبه بالمشركين‏.‏ وهذا معنى فيه‏.‏

ثم من هؤلاء ـ الذين قالوا‏:‏ إن النهي قد يكون لمعنى في المنهي عنه، وقد يكون لمعنى في غيره ـ من قال‏:‏ إنه قد يكون لوصف في الفعل ، لا في أصله‏.‏ فيدل على صحته، كالنهي عن صوم يومي العيدين، قالوا‏:‏ هو منهي عنه لوصف العيدين؛ لا لجنس الصوم؛ فإذا صام صح؛ لأنه سماه صومًا‏.‏

/ فيقال لهم‏:‏ وكذلك الصوم في أيام الحيض، وكذلك الصلاة بلا طهارة، وإلى غير القبلة جنس مشروع؛ وإنما النهي لوصف خاص وهو الحيض، والحدث، واستقبال غير القبلة‏.‏ ولا يعرف بين هذا وهذا فرق معقول له تأثير في الشرع؛ فإنه إذا قيل‏:‏ الحيض والحدث صفة في الحائض والمحدث، وذلك صفة في الزمان‏.‏ قيل‏:‏ والصفة في محل الفعل ـ زمانه ومكانه ـ كالصفة في فاعله؛ فإنه لو وقف بعرفة في غير وقتها، أو غير عرفة لم يصح، وهو صفة في الزمان، والمكان‏.‏ وكذلك لو رمي الجمار في غير أيام منى، أو المرمي، وهو صفة في الزمان والمكان‏.‏ واستقبال غير القبلة هو لصفة في الجهة لا فيه، ولا يجوز، ولو صام بالليل لم يصح، وإن كان هذا زمانًا‏.‏

فإذا قيل‏:‏ الليل ليس بمحل للصوم شرعا‏.‏ قيل‏:‏ ويوم العيد ليس بمحل للصوم شرعا، كما أن زمان الحيض ليس بمحل للصوم شرعا، فالفرق لابد أن يكون فرقا شرعيا، فيكون معقولا، ويكون الشارع قد جعله مؤثرًا في الحكم، بحيث علق به الحل أو الحرمة، الذي يختص بأحد الفعلين‏.‏

وكثير من الناس يتكلم بفروق لا حقيقة لها، ولا تأثير له في الشرع، أو يمنع تأثيره في الأصل‏.‏ وذلك أنه قد يذكر وصفًا يجمع به بين الأصل والفرع، ولا يكون ذلك الوصف مشتركا بينهما، بل /قد يكون منفيًا عنهما، أو عن أحدهما‏.‏

وكذلك المفرق قد يفرق بوصف يدعي انتقاضه بإحدي الصورتين، وليس هو مختصًا بها، بل هو مشترك بينها،وبين الأخري، كقولهم‏:‏النهي لمعنى في المنهي عنه،وذلك لمعنى في غيره، أو ذاك لمعنى في وصفه دون أصله‏.‏ ولكن قد يكون النهي لمعنى يختص بالعبادة والعقد، وقد يكون لمعنى مشترك بينها وبين غيرها،كما ينهي المحرم عما يختص بالإحرام؛ مثل حلق الرأس،ولبس العمامة،وغير ذلك من الثياب المنهي عنها،وينهي عن نكاح امرأته، وينهي عن صيد البر، وينهي مع ذلك عن الزنا، والظلم للناس فيما ملكوه من الصيد‏.‏

وحينئذ، فالنهي لمعنى مشترك أعظم؛ ولهذا لو قتل المحرم صيدًا مملوكًا، وجب عليه الجزاء لحق اللّه، ووجب عليه البدل لحق المالك‏.‏ ولو زنا لأفسد إحرامه، كما يفسد بنكاح امرأته، ويستحق حد الزنا مع ذلك‏.‏ وعلى هذا، فمن لبس في الصلاة ما يحرم فيها، وفي غيرها، كالثياب التي فيها خيلاء وفخر؛ كالمسبلة، والحرير، كان أحق ببطلان الصلاة من الثوب النجس، وفي الحديث الذي في السنن‏:‏ ‏(‏إن اللّه لا يقبل صلاة مُسْبِل‏)‏‏.‏ والثوب النجس فيه نزاع، وفي قدر النجاسة نزاع، والصلاة في الحرير للرجال من غير حاجة حرام بالنص والإجماع‏.‏

وكذلك البيع بعد النداء، إذا كان قد نهي عنه وغيره يشغل عن/ الجمعة، كان ذلك أوكد في النهي، وكل ما شغل عنها فهو شر وفساد لا خير فيه‏.‏

والملك الحاصل بذلك كالملك الذي لم يحصل إلا بمعصية اللّه، وغضبه، ومخالفته، كالذي لا يحصل إلا بغير ذلك من المعاصي؛ مثل الكفر والسحر والكهانة والفاحشة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏حُلْوان الكاهن خبيث، ومَهْر البغِي خبيث‏)‏، فإذا كانت السلعة لا تملك إن لم تترك الصلاة المفروضة، كان حصول الملك بسبب ترك الصلاة، كما أن حصول الحلوان والمهر بالكهانة والبغاء؛ وكما لو قيل له‏:‏ إن تركت الصلاة اليوم أعطيناك عشرة دراهم‏.‏ فإن ما يأخذه على ترك الصلاة خبيث، كذلك ما يملك بالمعاوضة على ترك الصلاة خبيث‏.‏ ولو استأجر أجيرًا بشرط ألا يصلي، كان هذا الشرط باطلا، وكان ما يأخذه عن العمل الذي يعمله بمقدار الصلاة خبيثًا، مع أن جنس العمل بالأجرة جائز، كذلك جنس المعاوضة جائز، لكن بشرط ألا يتعدي عن فرائض اللّه‏.‏

وإذا حصل البيع في هذا الوقت وتعذر الرد، فله نظير ثمنه الذي أداه، ويتصدق بالربح، والبائع له نظير سلعته، ويتصدق بالربح، إن كان قد ربح، ولو تراضيا بذلك بعد الصلاة لم ينفع؛ فإن النهي هنا لحق اللّه تعالى، فهو كما لو تراضيا بمهر البغي، وهناك يتصدق به على / أصح القولين، لا يعطي للزاني‏.‏ وكذلك في الخمر، ونحو ذلك مما أخد صاحبه منفعة محرمة، فلا يجمع له العوض والمعوض؛ فإن ذلك أعظم إثمًا من بيعه‏.‏

وإذا كان لا يحل أن يباع الخمر بالثمن، فكيف إذا أعطي الخمر وأعطي الثمن‏؟‏‏!‏ وإذا كان لا يحل للزاني أن يزني وإن أعطي، فكيف إذا أعطي المال والزنا جميعا‏؟‏‏!‏ بل يجب إخراج هذا المال كسائر أموال المصالح المشتركة، فكذلك هنا إذا كان قد باع السلعة وقت النداء بربح، وأخذ سلعته، فإن فاتت تصدق بالربح، ولم يعطه للمشتري، فيكون أعانه على الشراء‏.‏ والمشتري يأخذ ثمنه، ويعيد السلعة، فإن باعها بربح تصدق به، ولم يعطه للبائع فيكون قد جمع له بين ربحين‏.‏

وقد تنازع الفقهاء في المقبوض بالعقد الفاسد، هل يملك‏؟‏ أو لا يملك‏؟‏ أو يفرق بين أن يفوت أو لا يفوت، كما هو مبسوط في غير هذا الموضع‏.‏ واللّه أعلم‏.‏